كثر لغط الناس في هذه الكلمة ودرجت على ألسنتهم وأصبحت مقالة تكتب من قبل كاتب لايفقه من الدين
شيئاً ، حتى قلبت المعاني وفهم الكلام على غير معناه !!!
وسأحاول بإذن الله في هذا الموضوع الإختصار مهما كان لعل الله ينفعنا بذلك ...
أبدأ فأقول:
حقيقةً لابد أن نعرف معنى الوسطية كما عرفها أهل الوسطية أنفسهم !!!
قال الإمام الطبري -رحمه الله- في تفسيره:
القول في تأويل قوله تعالى : ** وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وسطًا"، كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد
عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك
على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم
أمة وسطًا.
وقد بينا أن"الأمة"، هي القرن من الناس والصِّنف منهم وغَيرهم.
وأما"الوسَط"، فإنه في كلام العرب الخيارُ. يقال منه:"فلان وَسَطُ الحسب في قومه"، أي متوسط
الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه، و"هو وَسَطٌ في قومه، وواسطٌ"، كما يقال:"شاة يابِسةُ اللبن
ويَبَسةُ اللبن"، وكما قال جل ثناؤه:قال أبو جعفر: وأنا أرى أن"الوسط" في هذا الموضع، هو"الوسط"
الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين، مثل"وسَط الدار" محرَّك الوَسط مثقَّله، غيرَ جائز
في"سينه" التخفيف.
وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم"وسَط"، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ
النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود
الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه.
فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها.انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية:
إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ ؛ فَإِنَّ
الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ ؛ مِنْ غَيْرِ
تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ، بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ ؛ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ
فِي الْأُمَمِ،فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ
الْمُشَبِّهَةِ،وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللَّهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ،وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللَّهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ
وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ،وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ، وَبَيْنَ
الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ،وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ. انتهى .
قال الشارح محمد خليل هراس -رحمه الله- معلقاً على ماسبق:
ثمَّ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِأَنَّهُمْ وَسَطٌ بَيْنَ فِرَقِ الضَّلَالِ وَالزَّيْغِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛ كَمَا أَنَّ هَذِهِ
الْأُمَّةَ وَسَطٌ بَيْنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ ؛ قَالَ تَعَالَى : ** وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } .
وَمَعْنَى ( وَسَطًا ) : عُدُولًا خِيَارًا ؛ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ .
فَهَذِهِ الْأُمَّةُ وَسَطٌ بَيْنَ الْأُمَمِ الَّتِي تَجْنَحُ إِلَى الْغُلُوِّ الضَّارِّ وَالْأُمَمِ الَّتِي تَمِيلُ إِلَى التَّفْرِيطِ الْمُهْلِكِ .
فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ غَلَا فِي الْمَخْلُوقِينَ ، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَحُقُوقِهِ مَا جَعَلَ ؛ كَالنَّصَارَى الَّذِينَ
غَلَوْا فِي الْمَسِيحِ وَالرُّهْبَانِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ جَفَا الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ ، حَتَّى قَتَلَهُمْ ، وَرَدَّ دَعْوَتَهُمْ ؛ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ قَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى ،
وَحَاوَلُوا قَتْلَ الْمَسِيحِ ، وَرَمَوْهُ بِالْبُهْتَانِ .
وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ ؛ فَقَدْ آمَنَتْ بِكُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ ، وَاعْتَقَدَتْ رِسَالَتَهُمْ ، وَعَرَفَتْ لَهُمْ مَقَامَاتِهِمُ الرَّفِيعَةَ
الَّتِي فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِهَا .
وَمِنَ الْأُمَمِ أَيْضًا مَنِ اسْتَحَلَّتْ كُلَّ خَبِيثٍ وَطَيِّبٍ .
وَمِنْهَا مَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ غُلُوًّا وَمُجَاوَزَةً .
وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ ؛ فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَهَا الطَّيِّبَاتِ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهَا الْخَبَائِثَ .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْكَامِلَةِ بِالتَّوَسُّطِ فِيهَا ،فَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ مُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ فِرَقِ الْأُمَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ الَّتِي انْحَرَفَتْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .انتهى.
قلت : وكلام أهل العلم في هذا الباب يطول، لكن إجمالاً الوسطية مفهوم واسع يشمل الدنيا والدين ،
فهي عبادة الله على ماجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعيش الحياة وعمارة الأرض بالكامل
وقد كان رسول الله لايرد شيئاً من طيبات الدنيا إذا كان حلالاً .
وليس معنى الوسطية تمييع الدين أو الأخذ بالأسهل وإن كان خطأً .
وأسهل طريق لتطبيق الوسيطة هو الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم-
شبراً بشبر.
قال الله تعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)
وقال تعالى : ( قل إن كنت تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)
ومعلوم أن الدين الإسلامي صالح لكل مكان وزمان لأنه خاتم الأديان فلا بد أن يكون وسطاً ، وأن منهج
النبي صلى الله عليه وسلم هو عين الوسطية لأنه خاتم الأنبياء....
والله تعالى أعلم وأحكم....